فصل: سورة الفرقان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



والآن نبدأ الشوط الأول بالتفصيل:
{تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا}.
إنه البدء الموحي بموضوع السورة الرئيسي: تنزيل القرآن من عند الله، وعموم الرسالة إلى البشر جميعا. ووحدانية الله المطلقة، وتنزيهه عن الولد والشريك، وملكيته لهذا الكون كله، وتدبيره بحكمة وتقدير.. وبعد ذلك كله يشرك المشركون، ويفتري المفترون، ويجادل المجادلون، ويتطاول المتطاولون!
{تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا}..
والتبارك تفاعل من البركة، يوحي بالزيادة فيها والفيض والرفعة جميعا. ولم يذكر لفظ الجلالة واكتفى بالاسم الموصول {الذي نزل الفرقان} لإبراز صلته وإظهارها في هذا المقام، لأن موضوع الجدل في السورة هو صدق الرسالة وتنزيل القرآن.
وسماه الفرقان. بما فيه من فارق بين الحق والباطل، والهدي والضلال. بل بما فيه من تفرقة بين نهج في الحياة ونهج، وبين عهد للبشرية وعهد. فالقرآن يرسم منهجا واضحا للحياة كلها في صورتها المستقرة في الضمير، وصورتها الممثلة في الواقع. منهجا لا يختلط بأي منهج آخر مما عرفته البشرية قبله. ويمثل عهدا جديداً للبشرية في مشاعرها وفي واقعها لا يختلط كذلك بكل ما كان قبله. فهو فرقان بهذا المعنى الواسع الكبير. فرقان ينتهي به عهد الطفولة ويبدأ به عهد الرشد. وينتهي به عهد الخوارق المادية ويبدأ به عهد المعجزات العقلية. وينتهي به عهد الرسالات المحلية الموقوتة، ويبدأ به عهد الرسالة العامة الشاملة: {ليكون للعالمين نذيرا}.
وفي موضع التكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مقام التعظيم يصفه بالعبودية: {على عبده}.. كذلك وصفه في مقام الإسراء والمعراج في سورة الإسراء: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} وكذلك وصفه في مقام دعائه ومناجاته في سورة الجن: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه...}
وكذلك يصفه هنا في مقام تنزيل الفرقان عليه كما وصفه في مثل هذا المقام في مطلع سورة الكهف: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً..} والوصف بالعبودية في هذه المواضع له دلالته على رفعة هذا المقام، وأنه أرفع ما يرتفع إليه بشر من بني الإنسان. كما أن فيه تذكيراً خفياً بأن مقام البشرية حين يبلغ مداه لا يزيد على أن يكون مقام العبودية لله. ويبقى مقام الألوهية متفردا بالجلالة، متجردا من كل شبهة شرك أو مشابهة. ذلك أن مثل مقام الإسراء والمعراج، أو مقام الدعاء والمناجاة، أو مقام الوحي والتلقي، كان مزلة لبعض أتباع الرسل من قبل، منها نشأت أساطير البنوة لله، أو الصلة القائمة على غير الألوهية والعبودية. ومن ثم يحرص القرآن على توكيد صفة العبودية في هذا المقام، بوصفها أعلى أفق يرتفع إليه المختارون من بني الإنسان.
ويرسم الغاية من تنزيل الفرقان على عبده... {ليكون للعالمين نذيراً}... وهذا النص مكي، وله دلالته على إثبات عالمية هذه الرسالة منذ أيامها الأولى. لا كما يدعي بعض المؤرخين غير المسلمين، أن الدعوة الإسلامية نشأت محلية، ثم طمحت بعد اتساع رقعة الفتوح أن تكون عالمية. فهي منذ نشأتها رسالة للعالمين. طبيعتها طبيعة عالمية شاملة، ووسائلها وسائل إنسانية كاملة؛ وغايتها نقل هذه البشرية كلها من عهد إلى عهد، ومن نهج إلى نهج. عن طريق هذا الفرقان الذي نزله الله على عبده ليكون للعالمين نذيراً، فهي عالمية للعالمين والرسول يواجه في مكة بالتكذيب والمقاومة والجحود..
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده... {الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً}..
ومرة أخرى لا يذكر لفظ الجلالة ولكن يذكر الاسم الموصول لإبراز صلته الدالة على صفات يراد توكيدها في هذا المقام:
{الذي له ملك السماوات والأرض}... فله السيطرة المطلقة على السماوات والأرض. سيطرة الملكية والاستعلاء، وسيطرة التصريف والتدبير، وسيطرة التبديل والتغيير.
{ولم يتخذ ولداً}... فالتناسل ناموس من النواميس التي خلقها الله لامتداد الحياة؛ وهو سبحانه باق لا يفنى، قادر لا يحتاج.
{ولم يكن له شريك في الملك}... وكل ما في السماوات والأرض شاهد على وحدة التصميم، ووحدة الناموس، ووحدة التصريف.
{وخلق كل شيء فقدره تقديراً}. قدر حجمه وشكله. وقدر وظيفته وعمله. وقدر زمانه ومكانه. وقدر تناسقه مع غيره من أفراد هذا الوجود الكبير.
وإن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه، لما يدعو إلى الدهشة حقا، وينفي فكرة المصادفة نفيا باتا. ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره، في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير. وكلما تقدم العلم البشري فكشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون ونسبه ومفرداته اتسع تصور البشر لمعنى ذلك النص القرآني الهائل: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً}.
يقول (أ. كريسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان: الإنسان لا يقوم وحده.
ومما يدعو إلى الدهشة أن يكون تنظيم الطبيعة على هذا الشكل، بالغاً هذه الدقة الفائقة. لأنه لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام، لامتص ثاني أكسيد الكربون والأوكسجين، ولما أمكن وجود حياة النبات.
ولو كان الهواء أرفع كثيراً مما هو فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثانية. وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض، ولكانت العاقبة مروعة. أما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربا من مجرد حرارة مروره!.
إن الهواء سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيميائي التي يحتاج إليها الزرع، والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات، دون أن تضر بالإنسان، إلا إذا عرض نفسه لها مدة أطول من اللازم، وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور ومعظمها سامّ فإن الهواء باق دون تلويث في الواقع، ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان. وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء أي المحيط الذي استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل، والنباتات. وأخيراً الإنسان نفسه....
ويقول في فصل آخر: لو كان الأوكسجين بنسبة 50 بالمائة مثلاً أو أكثر في الهواء بدلاً من 21 في المائة فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال، لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لابد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر. ولو أن نسبة الأوكسجين في الهواء قد هبطت إلى 10 في المائة أو أقل، فإن الحياة ربما طابقت نفسها عليها في خلال الدهور. ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناصر المدنية التي ألفها الإنسان كالنار مثلا تتوافر له.
ويقول في فصل ثالث: ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان مهما يكن من وحشيته أو ضخامته أو مكره من السيطرة على العالم، منذ عصر الحيوانات القشرية المتجمدة! غير أن الإنسان وحده قد قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر. وسرعان ما لقي جزاءه القاسي على ذلك، ماثلاً في تطور آفات الحيوان والحشرات والنبات.
والواقعة الآتية فيها مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الإنسان.
فمنذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبار في استراليا. كسياج وقائي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة تقرب من مساحة انجلترا، وزاحم أهل المدن والقرى، وأتلف مزارعهم، وحال دون الزراعة. ولم يجد الأهالي وسيلة تصده عن الانتشار؛ وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت، يتقدم في سبيله دون عائق!
وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيراً حشرة لا تعيش إلا على ذلك الصبار، ولا تتغذى بغيره، وهي سريعة الانتشار، وليس لها عدو يعوقها في استراليا. وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبار. ثم تراجعت، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية، تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الأبد.
وهكذا توافرت الضوابط والموازين، وكانت دائماً مجدية.
ولماذا لم تسيطر بعوضة الملاريا على العالم إلى درجة كان أجدادنا يموتون معها، أو يكسبون مناعة منها؟ ومثل ذلك أيضاً يمكن أن يقال عن بعوضة الحمى الصفراء التي تقدمت شمالاً في أحد الفصول حتى وصلت إلى نيويورك. كذلك البعوض كثير في المنطقة المتجمدة. ولماذا لم تتطور ذبابة تسي تسي حتى تستطيع أن تعيش أيضاً في غير مناطقها الحارة، وتمحو الجنس البشري من الوجود؟ يكفي أن يذكر الإنسان الطاعون والأوبئة والجراثيم الفاتكة التي لم يكن له وقاء منها حتى الأمس القريب، وأن يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد الوقاية الصحية، ليعلم أن بقاء الجنس البشري رغم ذلك يدعو حقاً إلى الدهشة!...
إن الحشرات ليست لها رئتان كما للإنسان؛ ولكنها تتنفس عن طريق أنابيب. وحين تنمو الحشرات وتكبر، لا تقدر تلك الأنابيب أن تجاريها في نسبة تزايد حجمها. ومن ثم لم توجد قط حشرة أطول من بضع بوصات، ولم يطل جناح حشرة إلا قليلاً. وبفضل جهاز تكوين الحشرات وطريقة تنفسها لم يكن في الإمكان وجود حشرة ضخمة. وهذا الحد من نمو الحشرات قد كبح جماحها كلها، ومنعها من السيطرة على العالم. ولولا وجود هذا الضابط الطبيعي لما أمكن وجود الإنسان على ظهر الأرض. وتصور إنساناً فطرياً يلاقي دبوراً يضاهي الأسد في ضخامته، أو عنكبوتاً في مثل هذا الحجم!
ولم يذكر إلا القليل عن التنظيمات الأخرى المدهشة في فيزيولوجيا الحيوانات، والتي بدونها ما كان أي حيوان بل كذلك أي نبات يمكن أن يبقى في الوجود... الخ.
وهكذا ينكشف للعلم البشري يوماً بعد يوم، شيء من تقدير الله العجيب في الخلق، وتدبيره الدقيق في الكون، ويدرك البشر شيئاً من مدلولات قوله في الفرقان الذي نزله على عبده: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً}...ومع هذا فإن أولئك المشركين لم يدركوا شيئاً من هذا كله.
{واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً}.
وهكذا يجرد آلهتهم المدعاة من كل خصائص الألوهية فهم {لا يخلقون شيئاً} والله خلق كل شيء. {وهم يخلقون}.. يخلقهم عبادهم بمعنى يصنعونهم إن كانوا أصناماً وأوثاناً ويخلقهم الله بمعنى يوجدهم إن كانوا ملائكة أو جناً أو بشراً أو شجراً أو حجراً.. {ولا يملكون لأنفسهم} فضلاً عن أن يملكوا لعبادهم {ضراً ولا نفعاً} والذي لا يملك لنفسه النفع قد يسهل عليه الضر. ولكن حتى هذا لا يملكونه. ومن ثم يقدمه في التعبير بوصفه أيسر شيء كان يملكه أحد لنفسه! ثم يرتقي إلى الخصائص التي لا يقدر عليها إلا الله: {ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً} فلا إماتة حي، ولا إنشاء حياة، ولا إعادتها داخل في مقدورهم. فماذا لهم بعد ذلك من خصائص الألوهية، وما شبهة أولئك المشركين في اتخاذهم آلهة؟!
ألا إنه الانحراف المطلق، الذي لا يستغرب معه أن يدعوا على الرسول بعد ذلك ما يدعون، فدعواهم على الله أضخم وأقبح من كل ما يدعون على رسوله. وهل أقبح من ادعاء إنسان على الله وهو خالقه وخالق كل شيء، ومدبر أمره ومقدر كل شيء. هل أقبح من ادعاء إنسان أن لله شريكاً؟ وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أكبر؟ قال: «أن تجعل لله أنداداً وهو خلقك...».
وبعد عرض هذا التطاول على مقام الخالق جل وعلا، يعرض تطاولهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرد عليه عقب عرضه بما يظهر سخفه وكذبه:
{وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلماً وزوراً وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً}...
وأكذب شيء أن يقول كفار قريش هذه المقالة، وهم يوقنون في أنفسهم أنها الفرية التي لا تقوم على أساس. فما يمكن أن يخفى على كبرائهم الذين يلقونهم هذا القول أن القرآن الذي يتلوه عليه محمد صلى الله عليه وسلم شيء آخر غير كلام البشر؛ وهم كانوا يحسون هذا بذوقهم في الكلام؛ وكانوا لا يملكون أنفسهم من التأثر بالقرآن. ثم هم كانوا يعلمون عن محمد قبل البعثة أنه الصادق الأمين الذي لا يكذب ولا يخون. فكيف به يكذب على الله، وينسب إليه قولاً لم يقله؟
ولكنه العناد والخوف على مراكزهم الاجتماعية المستمدة من سيادتهم الدينية، كان يجنح بهم إلى هذه المناورات يطلقونها في وسط جمهور العرب، الذين قد لا يميزون بين الكلام، ولا يعرفون درجته: {إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون}.
قيل: إنهم عبيد أعاجم ثلاثة أو أكثر، هم الذين كانوا يعنونهم بهذه المقالة. وهو كلام متهافت تافه لا يقف للجدل. فإن كان بشر يملك أن يفتري مثل هذا القرآن بمعاونة قوم آخرين، فما يمسكهم هم عن الإتيان بمثله، مستعينين بأقوام منهم، ليبطلوا حجة محمد صلى الله عليه وسلم وهو يتحداهم به وهم عاجزون؟!
ومن ثم لا يجادلهم هنا ولا يناقشهم في هذا القول المتهافت؛ إنما يدمغهم بالوصف البارز الثابت:
{فقد جاءوا ظلماً وزوراً}... ظلماً للحق، ولمحمد، ولأنفسهم، وزوراً واضح الكذب ظاهر البطلان. ثم يمضي في استعراض مقولاتهم عن الرسول- صلى الله عليه وسلم وعن القرآن:
{وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً}...
ذلك لما وجدوا فيه من قصص الأولين التي يسوقها للعبرة والعظة، وللتربية والتوجيه، فقالوا عن هذا القصص الصادق: {أساطير الأولين} وزعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب أن تكتب له، لتقرأ عليه في الصباح والمساء إذ كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ثم يقولها هو بدوره، وينسبها إلى الله! وهذا استطراد في دعواهم التي لا تقوم على أساس، ولا تثبت للمناقشة. وإن سياقة القصص في القرآن بهذا التنسيق في عرضه؛ وبهذا التناسق بينه وبين الموضوع الذي يساق فيه، ويستشهد بالقصص عليه؛ وبهذا التناسب بين أهداف القصص وأهداف السياق في السورة الواحدة.. إن هذا كله ليشهد بالقصد والتدبير العميق اللطيف الذي لا يلحظ في الأساطير المبعثرة التي لا تجمعها فكرة، ولا يوجهها قصد، إنما تساق للتسلية وتزجية الفراغ!
وفي قولهم: إنها أساطير الأولين إشارة إلى بعدها في الزمان؛ فلا يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن تملى عليه من حفاظ الأساطير، الذين ينقلونها جيلاً عن جيل. لذلك يرد عليهم بأن الذي يمليها على محمد أعلم من كل عليم. فهو الذي يعلم الأسرار جميعاً، ولا يخفى عليه نبأ في الأولين والآخرين: {قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض}.. فأين علم حفاظ الأساطير ورواتها من ذلك العلم الشامل؟ وأين أساطير الأولين من السر في السماوات والأرض؟ وأين النقطة الصغيرة من الخضم الذي لا ساحل له ولا قرار؟